بدخولها إلى مدينة حلب، لا تغيّر فصائل المعارضة السورية المسلحة خرائط السيطرة على الأرض فحسب، بل تُحدث نقطة تحول ما قبلها لن يكون كما بعدها، على صعيد مشهد سوريا السياسي والعسكري والاقتصادي، كما يوضح خبراء وباحثون لموقع “الحرة”.
وتمكنت هذه الفصائل حتى الآن من إتمام السيطرة على غالبية أحياء المدينة، التي خضعت بالكامل لسيطرة النظام السوري بعد عام 2017. وجاء ذلك إثر هجوم مفاجئ أطلقت عليه الفصائل اسم “ردع العدوان”.
ولا يعرف حتى الآن ما ستؤول إليه الأوضاع في المدينة خلال الأيام المقبلة، وما إذا كانت الفصائل المسلحة ستنجح بعملية تثبيت السيطرة وتأمين محيط نفوذها الجديد من الخارج، الذي يضم ثكنات عسكرية.
وبدا لافتا خلال الأيام الثلاثة الماضية، أن تقدم مسلحي هذه الفصائل إلى وسط حلب جاء بصورة متسارعة، فيما لم تسجل أية مقاومة فعلية من جانب قوات النظام والميليشيات الإيرانية التي كانت تنتشر هناك.
والسبت، أقر النظام السوري بدخول الفصائل المسلحة معظم أحياء حلب وسقوط عشرات القتلى من قواته، لكنه اعتبر أن انسحاب القوات هو “إعادة انتشار” تمهيدا لـ”هجوم مضاد” لاستعادة المدينة التي تعتبر ثاني أكبر المدن السورية، وطالما وُصفت بأنها العاصمة الاقتصادية لسوريا.
“نقطة تحوّل”
ما حدث في حلب “يُمثل انتصارا كبيرا لقوى المعارضة السورية على الأصعدة العسكرية والسياسية والمعنوية”، كما يعتبر مدير وحدة تحليل السياسات في مركز “حرمون” للدراسات المعاصرة، سمير العبد الله.
ويوضح في حديثه لموقع “الحرة”، أن استعادة السيطرة على مدينة كبيرة مثل حلب، تُعد “عاملا حاسما سيؤثر بشكل كبير على مجريات الأحداث في سوريا، خاصة في ظل تحرير المناطق بسهولة وسرعة، وانهيار قوات النظام السوري وهروبها”.
وعلى الصعيد السياسي، تعيد سيطرة الفصائل على حلب “الزخم للقضية السورية، وتقوي موقف المعارضة والدول الداعمة لها في أي مفاوضات مقبلة، مما يعزز فرص تحقيق مكاسب سياسية”، حسب العبد الله.
أما على الصعيد العسكري، فيضيف الباحث أنه “لضمان احتفاظ الفصائل بمكاسبها، يتعين عليها السيطرة على المواقع الاستراتيجية المتبقية، مثل مطار حلب، ومطار كويرس، ومعامل الدفاع، التي قد يتحصن فيها النظام”.
وفي حال لم تتم السيطرة على هذه المواقع، “فقد يعود النظام إلى استهداف الأحياء المدنية بالقصف العشوائي، كما فعل في السابق”، وفقا للعبد الله.
فصائل مسلحة تسيطر على “غالبية” حلب.. وغارات على المدينة لأول مرة منذ 2016
ارتفع عدد قتلى المعارك بين المجموعات المسلحة المعارضة وقوات النظام السوري إلى أكثر من 300 شخص، فيما شنت مقاتلات حربية لأول مرة منذ حوالي 8 سنوات غارات على مناطق في حلب التي توغلت المجموعات المسلحة على غالبية المدينة.
وتضم حلب أكبر كتلة سكانية تهجرت من سوريا، سواء نزحت أو لجأت خارج البلاد، كما يشير الباحث السوري في مركز “جسور للدراسات”، عبد الوهاب عاصي.
ومن شأن فرض الاستقرار في المدينة أن “يحفز الدول الأوروبية والأمم المتحدة للتعامل مع السلطة التي ستمسك بزمام أمورها، لدعم التعافي في أسرع وقت ممكن، ولإعادة اللاجئين مما يخفف الأزمة المرتبطة بهم”، وفق حديثه.
ويعتقد عاصي في تصريحات لموقع “الحرة”، أن “الأهمية الكبرى للسيطرة على حلب تكمن في تخفيف أزمة اللاجئين”، مشيرا إلى حجمها الكبير، وقدرتها على استيعاب السوريين من شتى المحافظات نظرا لكثرة الكتل السكنية المنتشرة فيها.
“سيطرة تغيّر الموازين”
ولا تزال الكثير من الضبابية تحيط بالأسباب التي تقف وراء سرعة انهيار قوات النظام السوري أمام فصائل المعارضة المسلحة. وتحيط الضبابية أيضا بالسلوك الروسي، الذي لم يتضح فعليا على الأرض حتى الآن.
النظام السوري يقر بدخول المعارضة المسلحة حلب ويتحدث عن “استعدادات لهجوم مضاد”
أعلن جيش النظام السوري، السبت، مقتل العشرات من قواته إثر الهجوم الذي نفذته فصائل مسلحة معارضة في حلب وإدلب خلال الأيام الماضية، مضيفًا أن انسحابه من بعض المناطق يعد “إعادة انتشار” من أجل التجهيز لهجوم مضاد.
وكان النظام السوري قد أكمل سيطرته على حلب بعد عام 2017، ومنذ ذلك الحين أطلقت تركيا وروسيا وإيران مسار أستانة، الذي قسّم البلاد إلى “مناطق خفض تصعيد”.
وإدلب وأجزاء من ريف حلب واللاذقية وضعت بين هذه المناطق الخاصة بـ”خفض التصعيد”، مع أن النظام وحلفاءه لم يتوقفوا عن قصفها بالأسلحة، مما أسفر عن مقتل مدنيين.
ويلفت الباحث السوري عاصي إلى أن “هذه المرة الأولى التي تسيطر فيها فصائل المعارضة على مدينة كبيرة وبشكل كامل بعد الرقة”، في إشارة إلى حلب.
ويوضح أن “النظام السوري فقد السيطرة لأول مرة على مدينة سورية اقتصادية”، معتبرا أن ما يجري “يغيّر خارطة السيطرة والموازين أيضا”.
وتكمن أهمية حلب أولا كمدينة صناعية، إذ تضم مدنا كاملة وضخمة، بينها العرقوب، والكلاسة، والشيخ نجار.
ويرى عاصي أنه يمكن لهذه المنشآت أن “تشتغل وتستفيد منها كل مناطق سيطرة فصائل المعارضة في شمال سوريا”.
هجوم حلب السورية.. ما الذي يعنيه بالنسبة لإيران؟
المناطق التي يستهدفها هجوم فصائل المعارضة في ريف مدينة حلب تعرف منذ سنوات بأنها ذات أهمية كبيرة بالنسبة لإيران عسكريا، وهو ما عكسته السنوات التي سبقت عام 2020 عندما زج “الحرس الثوري” بالكثير من الميليشيات هناك على الأرض أو على صعيد الحادثة التي أسفرت الخميس عن مقتل جنرال كبير يدعى كيومارس بورهاشمي.
علاوة على ذلك، ففي حال وسّعت الفصائل المسلحة سيطرتها في محيط المدينة خلال الأيام المقبلة، “سيكون بيدها مطار مدني وعسكري”. وهذه الخطوة لو حصلت فإنها تُعتبر “استثنائية وذات أهمية كبيرة”، حسب قول عاصي.
ويشير الباحث السوري كذلك إلى أن سيناريو السيطرة على حلب كاملة والتثبيت فيها “سيعود على المعارضة بالكثير من المكاسب، وقد تتحول هذه المدينة إلى عاصمة سياسية واقتصادية لها في آن واحد”.
هل من توقعات للمستقبل؟
منذ بدء اليوم الأول للهجوم على حلب وريفها، عرفّت الفصائل نفسها ضمن نطاق ما يعرف بـ”إدارة العمليات العسكرية”.
وتشمل هذه “الإدارة” عدة فصائل، بينها “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقا)، وأخرى تتبع لـ”الجيش الوطني السوري” الذي تدعمه تركيا، فضلا عن تشكيلات تنشط عسكريا في شمال سوريا بشكل منفرد، كانت تنضوي سابقا في “الجيش السوري الحر”.
ويعتقد العبد الله أنه لتحقيق النتائج الكاملة للسيطرة على حلب “فسيتعين على المعارضة مواصلة التقدم” والسيطرة على “جميع المواقع العسكرية وصولا إلى مدينة الطبقة، لضمان عدم قدرة النظام على استجماع قواه مجددا”.
بالإضافة إلى ذلك، يعتبر الباحث أن “الانتصار يعد فرصة كبيرة لتركيا لتوسيع المنطقة الآمنة لتشمل محافظة حلب بأكملها، مما قد يتيح عودة أكثر من مليون لاجئ سوري إلى ديارهم، ويساهم في تحقيق استقرار أكبر على المستويين المحلي والإقليمي”، مؤكدا أن ما يجري في حلب بمثابة “نقطة تحول مهمة”.
من جانبه، يشير عاصي إلى أن السيطرة على حلب “تؤهل فصائل المعارضة للتحول إلى جيش نظامي مع تشكيل وزارة دفاع حقيقية”. ويربط هذا الأمر بالثكنات العسكرية الموجودة في محيطها والمنشآت، من كليات وأكاديميات كبيرة ومعسكرات تدريب.
وفي في حال سيطرت الفصائل على المطار العسكري وطردت ميليشيات إيران من معامل الدفاع الموجودة هناك، فسيكون بيدها “أهم منشآت عسكرية في سوريا”، حسب عاصي.
إجمالي القتلى و”مواقع السيطرة”.. حصيلة 3 أيام من الاشتباكات في سوريا
ارتفعت حصيلة القتلى من المعارك الدائرة في حلب بين قوات النظام السوري والفصائل المسلحة المعارضة، إلى 287 شخصا من بنيهم مدنيين، وفق المرصد السوري لحقوق الإنسان.
ويوضح أن إيران “كانت قد ساهمت في إنشاء معامل الدفاع منذ سنوات، والتي تحتوي على مخازن أسلحة هائلة ومنشآت تصنيع كبيرة، ومراكز انطلاق لتوزيع الذخائر على جميع الثكنات المنتشرة في البلاد”.
ولا يزال المشهد المتعلق بحلب حتى صباح السبت، يحكمه مشهد عسكري أكثر منه سياسي.
وكانت “حكومة الإنقاذ السورية” في إدلب، المتهمة بالارتباط بـ”تحرير الشام”، وجهت بيانا، الجمعة، للجانب الروسي، وكان لافتا فيه دعوتها لموسكو إلى عدم “ربط مصالحها بالنظام السوري”.
وقالت في المقابل، إن “الشعب السوري يسعى لبناء علاقات إيجابية قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة مع كل دول العالم، بما في ذلك روسيا التي نعتبرها شريكا محتملا في بناء مستقبل مشرق لسوريا الحرة”.
وستفرض السيطرة على حلب على المعارضة السياسية الحقيقة أن تبدأ بالعمل على الصعيدين السياسي والحكومي داخلها، وفق الباحث في مركز “جسور للدراسات”.
ويقول عاصي إنه “في حال رفضت المعارضة الخارجية تولي هذا العمل، فقد تكون هناك معارضة تنبثق من الداخل. وحلب ستفرض هذا السيناريو”.
كما يشير إلى تصريحات سابقة لرئيس هيئة التفاوض السورية، بدر جاموس، في إحدى النقاشات، قال فيها إنهم وضعوا أعينهم على ضرورة أن تكون اجتماعات اللجنة الدستورية، في حال كانت هناك جدية ورغبة دولية لاستئنافها، داخل حلب وليس عمان أو بغداد أو جنيف.
المصدر : الحرة